الحرب في السودان- هل يوجد خير في الشر؟

المؤلف: ركابي حسن يعقوب09.22.2025
الحرب في السودان- هل يوجد خير في الشر؟

الصراع الدائر في السودان منذ الخامس عشر من أبريل 2023، قد خلف دمارًا شاملاً وأضرارًا جسيمة، طالت البنية التحتية الحيوية، وأزهقت أرواح عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء، إضافةً إلى تشريد الملايين داخل البلاد وخارجها. ومع ذلك، وسط هذه المأساة، بزغت بعض النتائج التي يمكن اعتبارها إيجابية، مصداقاً لمقولة "رب ضارة نافعة".

هذه النتائج لم تكن لتظهر لولا هذه الحرب المريرة، ولم يتم التخطيط لها مسبقاً من أي طرف داخلي أو خارجي؛ بل هي وليدة ظروف الحرب وتداعياتها.

هذه النتائج قد تلعب دوراً محورياً في تجاوز العديد من المشكلات المزمنة التي عانت منها الحياة السياسية والاجتماعية في السودان منذ الاستقلال، والتي تسببت في أزمات ونزاعات داخلية، أبرزها الحرب الأهلية في جنوب السودان التي استمرت زهاء ثلاثة وثلاثين عاماً، وأدت إلى انفصال الجنوب عبر استفتاء تاريخي في يناير 2011، ليصبح دولة مستقلة.

ومن بين تداعيات هذه المعضلات أيضاً، أزمة دارفور التي اندلعت في عام 2003، واستمرت سبعة عشر عاماً، شهدت ثلاث اتفاقيات سلام، لم تصمد منها سوى واحدة، وهي اتفاقية جوبا التي وقعت في أغسطس 2020، ولا تزال سارية المفعول.

إذا تأملنا بعمق في طبيعة المشكلات الأساسية التي واجهت السودان، نجد أن بعضها ناتج عن أسباب جغرافية وديموغرافية وتاريخية متوارثة، بيد أن معظمها كان نتيجة لممارسات سياسية خاطئة من قبل الأحزاب والكيانات السياسية التي ظهرت بعد الاستقلال، وأخطاء ارتكبتها الأنظمة والحكومات المتعاقبة.

لتوضيح الصورة، يمكن تحديد هذه المشكلات بإيجاز في ثلاث معضلات رئيسية:

أولًا: إشكالية تداول السلطة

برزت هذه الإشكالية بعد عامين فقط من استقلال السودان. ففي نوفمبر 1958، استلم الفريق إبراهيم عبود، قائد الجيش آنذاك، مقاليد الحكم من رئيس الوزراء المنتخب عبد الله خليل، بسبب تفاقم الخلافات بين الأحزاب السياسية، مما يعكس سوء الممارسة السياسية في تلك الفترة.

استمر حكم الفريق عبود باسم الجيش لمدة ست سنوات، حتى أُطيح به في ثورة شعبية في أكتوبر 1964.

بعد الثورة، أُنشئ نظام ديمقراطي وحكومة منتخبة، لكنها أزيحت بانقلاب عسكري دبره الحزب الشيوعي السوداني في 25 مايو 1969، بقيادة الرئيس الراحل جعفر نميري، الذي استمر حكمه ستة عشر عاماً، بعد أن تخلص من الشيوعيين الذين حاولوا الإطاحة به في انقلاب عسكري فاشل.

شهدت فترة حكم نميري عدة محاولات انقلابية فاشلة، حتى أطاحت به انتفاضة شعبية في أبريل 1985، أعقبتها انتخابات وتشكلت حكومة منتخبة برئاسة الصادق المهدي، الذي شهدت فترة حكمه اضطرابات أمنية واقتصادية وتردياً في الممارسة السياسية وتفشياً للفساد، قبل أن يطيح به انقلاب عسكري بقيادة عمر البشير في يونيو 1989.

استمر حكم البشير قرابة ثلاثين عاماً، شهدت خلالها السودان تحديات كبيرة، أطاحت بنظامه ثورة شعبية مدعومة من الخارج في أبريل 2019. ثم تشكل مجلس سيادة انتقالي برئاسة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وتعيين عبد الله حمدوك رئيساً للوزراء.

وشهدت هذه الفترة بدورها اضطرابات عديدة، وتميزت بعدم الاستقرار والعداء للجيش من قبل القوى المدنية، مما أدى إلى محاولة هذه القوى، المتحالفة مع قائد قوات الدعم السريع آنذاك، للاستيلاء على السلطة بالقوة في 15 أبريل 2023، وهي المحاولة التي أشعلت الحرب المستمرة حتى اليوم.

من خلال هذا العرض الموجز لتاريخ تداول السلطة في السودان منذ الاستقلال، يتضح حجم الأزمة والاحتقان وعدم الاستقرار الذي ميز هذه المسألة على مدى تسعة وستين عاماً.

ثانيًا: مكانة الجيش

وهي المعضلة الثانية، حيث ظلت مكانة الجيش السوداني منذ الاستقلال محلاً للتجاذبات والمزايدات والكيد السياسي بين الأحزاب والقوى السياسية في السودان، كما واجه عداءً شديداً من العديد من هذه الأحزاب، خاصةً أحزاب اليسار السوداني، وتعرّض للإهمال المتعمد وعمليات إضعاف مقصودة، بهدف شل قدرته على التدخل في السياسة ومنعه من توسيع نفوذه.

وقد تصاعد العداء للجيش من قبل الأحزاب السياسية بشكل واضح في فترتين من فترات الحكم المدني:

  • الفترة الأولى، هي فترة حكم الصادق المهدي في التجربة الديمقراطية الثالثة، حيث تعرض الجيش لعملية إضعاف ممنهجة لم يشهدها من قبل، على الرغم من أن الحرب في الجنوب كانت في أوجها، ووصل الإضعاف الممنهج إلى حد أن الجنود في جبهات القتال كانوا يقاتلون حفاة وبلا مؤن ويعانون من نقص حاد في السلاح، بل وصل الأمر إلى حد إرسال ذخائر ألعاب نارية لوحدات الجيش المقاتلة، وهي واقعة مشهودة تم تبريرها بأنها شُحنت بالخطأ!

وقد مكّن هذا الإضعاف الممنهج قوات التمرد الجنوبي بقيادة جون قرنق من الاستيلاء على العديد من المناطق والمدن في جنوب السودان.

  • أما الفترة الثانية التي تعرض فيها الجيش للإضعاف المتعمد فهي التي تلت الإطاحة بالبشير وتحديدًا ما بين أبريل 2019 وأكتوبر 2021، حيث تعرض الجيش لأكبر محاولة ليس فقط لإضعافه، وإنما لتفكيكه كلية وإحلال قوات الدعم السريع مكانه، وذلك بزعم أن الجيش يهيمن عليه التيار الإسلامي الذي كان ممسكًا بمقاليد السلطة طوال ثلاثين عامًا، وقد سميت عملية التفكيك تدليلًا وتخفيفًا لها بـ "إعادة الهيكلة".

تعرض الجيش في هذه الفترة للكثير من التهكم والسخرية والتقليل من شأنه ودوره، وكان شباب الثورة المنتمون إلى الأحزاب اليسارية يرددون أهازيج تسخر من الجيش وتمجد قوات الدعم السريع وتعلي من شأن قائدها.

وصل ازدراء القوى السياسية والمؤسسات الرسمية المدنية بالجيش إلى أن تقدم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك - دون استشارة رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش البرهان - بخطاب للأمين العام للأمم المتحدة يطلب منه بموجب الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة إرسال بعثة سياسية تضم قوات أممية مهمتها ما سماه "بناء السلام". وقد كانت هذه الواقعة أولى محطات التوتر في العلاقة بين البرهان وحمدوك.

ثالثًا: التنمية وتوزيع السلطة والثروة

وهي الضلع الثالث في مثلث أزمة السودان ومعضلته المزمنة، وهي القضية الأكثر شيوعاً بين مختلف التيارات والحركات المطلبية في البلاد.

وهي الخلفية التي استندت إليها هذه التيارات، والشعار الذي رفع في وجه الحكومات المتعاقبة، وتقوم سردية هذا الاتجاه على وجود خلل حاد في التنمية وتوزيع السلطة والثروة بين أقاليم السودان المختلفة لصالح إقليم واحد، هو ما أطلق عليه في أولى مراحل تطور هذا الاتجاه المطلبي بالشمال، ثم الشريط النيلي، ومؤخراً دولة الـ 56.

تنطوي هذه المسميات على اعتقاد بأن هناك احتكاراً ممنهجاً للتنمية والسلطة والثروة من جانب سكان إقليم شمال السودان، وحرماناً لسكان بقية الأقاليم، والذين أطلق عليهم أصحاب هذا الاتجاه مصطلح المهمشين!

كل الحركات التي حملت السلاح في وجه الحكومات المركزية منذ الاستقلال كان منطلقها الأساسي هو هذا المفهوم (التهميش). وكل الدماء التي أريقت في الحروب والنزاعات كانت بفعل رفع هذه الراية، من تمرد الجنوب وحتى تمرد مليشيا الدعم السريع.

إن قضية التهميش هي واحدة من أخطر نتائج الممارسة السياسية الخاطئة في السودان، وإحدى الكبائر التي ارتكبتها النخب السياسية في سعيها نحو الاستحواذ على السلطة ومنافعها الاقتصادية والاجتماعية.

فإقليم شمال السودان لا يختلف عن بقية الأقاليم، التي يجمع بينها التخلف والفقر والجهل والمرض والنقص في الخدمات الأساسية وانعدام البنية التحتية.

فجغرافيا السودان وتضاريسه وتقاعس وفشل الأنظمة المتعاقبة في إحداث التنمية المطلوبة، كل ذلك ساهم في خلق هذا الخلل الذي لا يزال قائماً.

يطرح السؤال نفسه: ما هي النتائج الإيجابية المترتبة على الحرب الحالية والتي يمكن أن تساهم في الحل الجذري لهذه المعضلات الثلاث؟

أولاً: فيما يتعلق بتداول السلطة، فإن الدرس الذي يجب أن تستوعبه النخبة السياسية السودانية هو أن الوسيلة الأمثل لتداول السلطة في هذا البلد المتنوع هي الاحتكام إلى إرادة الشعب عبر نظام ديمقراطي نزيه.

والعكس صحيح، فإن الاستيلاء على السلطة بالقوة في سودان ما بعد الحرب يجب أن يكون مجرماً ومحرماً بالدستور والقانون، وأن تتفق القوى السياسية على استبعاد هذه الوسيلة من أجندتها، وأن تحصر هذه القوى خلافاتها داخل السياج الوطني ولا تشرك في شأن الوطن أيادي أجنبية.

  • ثانيًا: وفيما يتعلق بمكانة الجيش بين مؤسسات الدولة، فإن تجربة الحرب الحالية رسخت قناعة لدى الشعب السوداني بأن الجيش هو صمام الأمان للدولة، وأن وجوده قوياً ومتماسكاً ومتسلحاً بالعتاد العسكري أمر ضروري.

وقد انعكس هذا اليقين الشعبي في الدعم الذي قدمه الشعب للجيش، حيث يتجه النازحون إلى المناطق التي يسيطر عليها الجيش، ويتم استقبال القوات بمظاهر الفرح والاحتفال.

هذا يعتبر نقلة نوعية في نظرة الشعب السوداني إلى الجيش بعد أن شابها بعض الغموض في الماضي بسبب حملات التشويه.

بل إن حركات الكفاح المسلح التي قاتلت الجيش في الماضي انحازت إليه الآن، وتقاتل مليشيا الدعم السريع تحت قيادته، وأعلنت قيادات هذه الحركات أنها ستدمج قواتها في الجيش بعد انتهاء الحرب، مؤكدة أنه لن تكون هناك قوات موازية للجيش في سودان ما بعد الحرب. وهذا تطور هام سيكسب الجيش وضعاً أكثر تميزاً.

  • ثالثًا: أما بخصوص التنمية وتوزيع السلطة والثروة، فقد كشفت الحرب للجميع أن التهميش هو القاسم المشترك الذي ينتظم كل أقاليم السودان، وساعد على هذا الكشف عاملان:
    • أولهما؛ هو أن الحرب بدأت في العاصمة الخرطوم، وتقطنها كل مكونات السودان، وهو مؤشر على أن كل سكان تلك الأقاليم جاؤوا إلى الخرطوم بحثاً عن أوضاع أفضل.
    • وثانيهما؛ فإن الذين نزحوا من العاصمة وولاية الجزيرة وسنار رأوا بأعينهم أحوال الأقاليم الأخرى والتي لا تختلف عن مناطقهم الأصلية.

إضافة إلى ذلك، فإن مليشيا الدعم السريع استعدت كل المكونات الإثنية والطائفية والدينية في السودان من خلال ارتكاب مجازر وانتهاكات، مما وحد هذه المكونات ضدها وضد مشروعها لحكم السودان، إضافة إلى ارتباطها بالأجنبي وتنفيذها أجندة أجنبية، وجلبها مرتزقة لقتل مواطنيهم.

ومن المثير للدهشة أن القوات الدارفورية التابعة لحركات دارفور، التي كانت تعادي الشمال، تقف الآن دفاعاً عن الشمال وعن إنسانه ضد هجمات مليشيا الدعم السريع، وأن الجيش السوداني الذي كانت تقاتله في السابق، أصبح الآن حليفاً ستلتحم معه دفاعاً عن السودان كله.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة